فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذن: مسألة حفظ القرآن ليست مجرد استذكار حافظة، بل معونة حافظ، فإن كنت على وُدًّ وأُلْفة بكتاب الله ظلَّ معك، وإنْ تركته وجفوْته تفلَّتَ منك، كما جاء في الحديث الشريف: «تعاهدوا القرآن، فو الذي نفسي بيده لَهُو أشدُّ تفصّيًا من الإبل في عُقَلها».
ذلك؛ لأن حروف القرآن ليست مجرد حرف له رسم ومنطوق، إنما حروف القرآن ملائكة تُصفّ، فتكون كلمة، وتكون آية، فإنْ وددتَ الحرف، وودتَ الكلمة والآية، ودَّتْك الملائكة، وتراصتْ عند قراءتك.
ومن العجائب في تيسير حفظ القرآن أنك إنْ أعلمتَ عقلك في القراءة تتخبّط فيها وتخطىء، فإنْ أعدتَ القراءة هكذا على السليقة كما حفظت تتابعت معك الآيات وطاوعتك.
وتلحظ هنا أن القرآن لم يأْتِ باللفظ الصريح، إنما جاء بضمير الغيبة في {يَسَّرْنَاهُ} [مريم: 97] لأن الهاء هنا لا يمكن أن تعود إلا على القرآن، كما في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فضمير الغيبة هنا لا يعود إلا على الله تعالى.
وقوله: {بِلِسَانِكَ} [مريم: 97] أي: بلغتك، فجعلناه قرآنا عربيًا في أمة عربية؛ ليفهموا عنك البلاغ عن الله في البشارة والنذارة، ولو جاءهم بلغة أخرى لقالوا كما حكى القرآن عنهم. {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أعْجَمِيًّا لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
وقول الحق سبحانه وتعالى: {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 97]. والإنذار: التحذير من شَرِّ سيقع في المستقبل، واللَّدَد: عُنْف الخصومة، وشراسة العداوة، نقول: فلان عنده لَدَد أي: يبالغ في الخصومة، ولا يخضع للحجة والإقناع، ومهما حاولتَ معه يُصِرُّ على خصومته.
ويُنهي الحق سبحانه سورة مريم بقوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ} الحق تبارك وتعالى يُسرِّي عن نبيه صلى الله عليه وسلم ما يلاقي من عنت في سبيل دعوته، كأنه يقول له: إياك أنْ ينالَ منك بُغْض القوم لك وكُرههم لمنهج الله، إياك أنْ تتضاءلَ أمام جبروتهم في عنادك، فهؤلاء ليسوا أعزَّ من سابقيهم من المكذبين، الذين أهلكهم الله، إنما أستبقى هؤلاء لأن لهم مهمة معك.
وسبق أن أوضحنا أن الذين نجوْا من القتل من الكفار في بعض الغزوات، وحزن المسلمون لنجاتهم، كان منهم فيما بَعْد سيف الله المسلول خالد بن الوليد.
يقول تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ} [مريم: 98].
كم: خبرية تفيد الكثرة، من قرن: من أمة {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] لأننا أخذناهم فلم نُبق منهم أثرًا يحس. ووسائل الحِسَّ أو الإدراك كما هو معروف: العين للرؤية، والأذن للسمع، والأنف للشمّ، واللسان للتذوق، واليد للمس، فبأيّ آداة من أدوات الحسّ لا تجد لهم أثرًا. وقوله: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] الركْز: الصوت الخفيّ، الذي لا تكاد تسمعه. وهذه سُنَّة الله في المكذبين من الأمم السابقة كما قال سبحانه: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ والذين مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} [الدخان: 37].
أين عاد وثمود وإرم ذات العماد التي لم يُخلَق مثلها في البلاد؟ وأين فرعون ذو الأوتاد؟ فكل جبار مهما عَلَتْ حضارته ما استطاع أنْ يُبقي هذه الحضارة؛ لأن الله تعالى أراد لها أنْ تزول، وهل كفار مكة أشدّ من كل هؤلاء؟
لذلك حين تسمع هذا السؤال: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] لا يسَعْك إلاَّ أنْ تُجيب: لا أحسُّ منهم من أحد، ولا أسمع لهم ركزًا. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}.
يعني: بقي بعد الأنبياء الذين ذكرناهم من أول السورة إلى هنا بقيات سوء، وهم اليهود والنصارى.
يقال: في الرداءة خَلْفٌ بإسكان اللام وفي الصلاح خَلَفَ بفتح اللام.
ثم وصفهم فقال: {فَخَلَفَ مِن}، يعني: عن وقتها، ويقال: تركوها، ويقال: تركوا الصلاة فلم يؤدُّوها وجحدوا بها فكفروا، {واتبعوا الشهوات}؛ يعني: وشربوا الخمر، ويقال: استحلوا الزنى، ويقال: استحلوا نكاح الأخت من الأب.
{فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا}، يعني: شرًا، ويقال: وادي في جهنم يسمى غَيًّا، ويقال: مجازاة الغيّ كما قال الله عز وجل {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] أي مجازاة الآثام.
ثم استثنى فقال تعالى: {إِلاَّ مَن تَابَ}، يعني: رجع عن الكفر {وَامَنَ}، يعني: صدق بتوحيد الله عز وجل، {وَعَمِلَ صالحا} بعد التوبة.
{فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا}، يعني: لا ينقصون شيئًا من ثواب أعمالهم.
ثم قال عز وجل: {جنات عَدْنٍ} صار خفضًا، لأن معناه يدخلون في جنات عَدْنٍ.
{التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب}، يعني: ما غاب عن العباد والله عز وجل لا يغيب عنه شيء.
{إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا}، يعني: جائيًا كائنًا وقال القتبي: {مَأْتِيًّا} يعني: المفعول بمعنى الفاعل، يعني: جائيًا؛ وقال الزجاج: {مَأْتِيًّا} مفعول من الإتيان، لأن كل من وصل إليك فقد وصلت إليه وكل من أتاك فقد أتيته.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا}، يعني: في الجنة {لَغْوًا}، يعني: حَلفًا وباطلًا.
{إِلاَّ سلاما}، يعني: ويسمعون السلام يسلم بعضهم على بعض.
وقال الزجاج: اللغو ما يلغى من الكلام ويؤثم فيه، والسلام اسم جامع للخير لأنه يتضمن السلامة، يعني: لا يسمعون إلا سلامهم.
{وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}، يعني: طعامهم على مقدار البكرة والعشي، وليس هناك بُكرة ولا عشيّ.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبهم ذلك، فأخبرهم الله تعالى أن لهم في الجنة هذه الحالة؛ وقال القتبي: الناس يختلفون في مطاعمهم، فمنهم من يأكل وجبة أي مرة واحدة في كل يوم، ومنهم من يأكل متى وجد بغير وقت ولا عداد، ومنهم من يأكل الغداء والعشاء. فأعدل هذه الأحوال كلها وأنفعها الغداء والعشاء. والعرب تقول: عن ترك العشاء مهرمة، ويذهب بلحم الكارة، يعني: باطن الفخذ، فجعل طعام أهل الجنة على قدر ذلك.
ثم قال عز وجل: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا} يعني: مطيعًا لله عز وجل.
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} وذلك حين أبطأ عليه الوحي، وعند سؤال أهل مكة عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وأمر الروح عاتب المصطفى جبريل، فقال الله تعالى: قل يا جبريل لمحمد ومعناه: قل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من أمر الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} من أمر الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذلك} أي ما بين النفختين {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} يعني: لم يكن ينساك ربك حيث لم يوح إليك، ويقال: {مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} من أمر الآخرة والثواب والعقاب {وَمَا خَلْفَنَا} جميع ما مضى من أمر الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذلك} ما يكون في هذا الوقت منا.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي قد علم الله عز وجل ما كان وما يكون وما هو كائن حافظ لذلك، ويقال: ما نسيك ربك وإن تأخر عنك الوحي.
وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَر مِمّا تَزُورُنَا» فنزلت هذه الآية.
ثم قال: {رَبّ السموات والأرض} أي: خالق السموات وخالق الأرض {وَمَا بَيْنَهُمَا} من الخلق، ويقال: {رَبّ السموات والأرض} أي مالكهما وعالم بهما وما فيهما.
{فاعبده} أي: أطعه {واصطبر لِعِبَادَتِهِ} يعني: احبس نفسك على عبادته {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} يعني: هل تعلم أحدًا يسمى الله سوى الله وهل تعلم أحدًا يسمى الرحمن سواه، ويقال هل تعلم أحدًا يستحق أن يقال له خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون.
{وَيَقُولُ الإنسان} يعني: أبي بن خلف {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} للبعث على معنى الاستفهام، قال الله عز وجل: {أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان} يعني أو لا يتعظ ويعتبر {أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} قرأ: نافع وعاصم وابن عامر {أَوْ لاَ يُذْكَرِ} بجزم الذال مع التخفيف يعني أو لا يعلم والباقون {أَوْ لاَ يُذْكَرِ}، بنصب الذال والتشديد ثم قال: {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} أقسم الرب بنفسه ليبعثنهم وليجمعنهم يعني الذين أنكروا البعث. {والشياطين} يعني الشياطين {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ} يعني: لنجمعنهم {حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} يعني: جميعًا. قال أهل اللغة: الجثيُّ جمع جَاثِي مثل بارِك وبرك وساجد وسجد وقاعد وقعد، أي على ركبهم، ولا يقدرون على القيام.
قال الزجاج: الأصل في الجسم، وجاز كسرها إتباعًا لكسر التاء وهو نصب على الحال {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ} يعني: لنخرجن من كل شيعة من أهل كل دين {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا} يعني: جرأة على الله عز وجل، وهم القادة في الكفر وساداتهم، نبدأ بهم فنعذبهم في النار.
وروي عن سفيان عن علي بن الأقمر عن أبي الأحوص في قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيًّا} قال: يبدأ بالأكابر فالأكابر جرمًا.
قوله عز وجل: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيًّا} أي: أحق بالنار دخولًا.
{وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال بعضهم: أي داخلها، المؤمن والكافر يدخلون على الصراط، وهو ممدود على متن جهنم، ويقال: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} يعني الكفار الذين تقدم ذكرهم.
وروى سفيان عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد أن نافع بن الأزرق خاصم ابن عباس وقال: لا يردها مؤمن، فقال ابن عباس: أما أنا وأنت فسندخلها، فانظر بماذا نخرج منها إن خرجنا.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يرد الناس جميعًا الصراط وورودهم قيامهم حول النار ثم يمرون على الصراط بأعمالهم، فمنهم من يمر مثل البرق، ومنهم من يمر مثل الريح، ومنهم من يمر مثل الطير، ومنهم من يمر كأجود الخيل، ومنهم من يمر كأجود الإبل، ومنهم من يمر كعدو الرجل، حتى أن آخرهم مثل رجل نوره على إبهامي قدميه، ثم يتكفأ به الصراط، والصراط دحض مزلة كحدّ السيف عليه حسك كحسك العتاد، وحافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختطفون بها الناس، فبين مارٍ ناج، وبين مخدوش مكدوش في النار، والملائكة عليهم السلام يقولون: ربِّ سلِّم سلِّم.
وروى سفيان عن ثور بن خالد بن معدان قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: أَلَمْ يَعِدْنا رَبُّنَا أَنَّا نَرِدُ النَّارَ؟ قال: إنكم قد مررتم بها وهي خامدة، فذلك قوله عز وجل {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} يعني: الخلائق على الصرط، والصراط في جهنم {كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} يعني قضاء واجبًا.
قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن محمد بن مندوست قال: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل قال: حدثنا عدي بن عاصم قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا جرير عن أبي السليل عن غنيم بن قيس عن أبي العوام قال: قال كعب: هل تدرون ما قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}؟ قالوا: ما كنا نرى ورودها إلا دخولها. قال: لا، ولكن ورودها أن يجاء بجهنم كأنها متن إهالة، حتى إذا استوت عليها أقدام الخلائق برهم وفاجرهم نادى مناد: خذي أصحابك وذري أصحابي، فتخسف بكلّ ولي لها وهي أعلم بهم من الوالد لولده، وينجو المؤمنون نديَّة ثيابهم.
قال: وحدثني الثقة بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية كبا لها الناس كبوةً شديدة، وحزنوا حتى بلغ الحزن كل مبلغ، وليس أحدًا إلا وهو يدخلها فأنشؤوا يبكون. قال: ونزل بابن مظعون ضيف فقال لامرأته: هيئي لنا طعامًا فاستوصي بضيفك خيرًا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إليه وهم يبكون فقال: ما يُبْكِيكُمْ؟ قالوا: نزلت هذه الآية {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} يقول: كائنًا لا يبقى أحد إلا دخلها، فأنشأ عثمان بن مظعون يبكي، ثم انصرف إلى منزله باكيًا، فلما أتى منزله سمعت امرأته بكاءه، فأنشأت تبكي، فلما سمع الضيف بكاءهما أنشأ يبكي، فلما دخل عليهما عثمان قال لها: ما يبكيك؟ قالت: سمعت بكاءك فبكيت، فقال للضيف: وأنت ما يبكيك؟ قال: عرفت أن الذي أبكاكما سيبكيني، قال عثمان فابكوا وحق لكم أن تبكوا، أنزل الله عز وجل اليوم على رسوله {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} فمكثوا بعد هذه الآية سنتين، ثم قال عز وجل: {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا} وروي في بعض الأخبار أنه نزل بعد ثلاثة أيام {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا} الشرك والمعاصي {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيًّا} يعني: المشركين جميعًا فيها، ففرح المسلمون بها قرأ الكسائي. {نُنَجّى} بالتخفيف والباقون بالنصب والتشديد، أنجى ينجي وَنَجَّى ينجي بمعنى واحد.
{وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ} تعرض عليهم، يعني واضحات قد بين فيها الحلال والحرام {قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} يعني أن النضر بن الحارث قال لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: أهل مكة قالوا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم {أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَامًا} يعني أهل الدينين، يعني: منزلًا، قرأ ابن كثير {مَقَامًا} بضم الميم والباقون بالنصب، فمن قرأ بالضم فهو الإقامة، يقال: أقمت إقامة ومقامًا، ومن قرأ بالنصب فهو المكان الذي يقام فيه {وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} يعني: مجلسًا، وذلك أنهم لبسوا الثياب، ودهنوا الرؤوس، ثم قالوا للمؤمنين: أيُّ الفريقين خير منزلةً المسلمون أو المشركون؟ وأرادوا أن يصرفوهم عن دينهم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا} يعني: أكثر أموالًا وَرِئْيًا يعني: منظرًا حسنًا، فلم يُغن عنهم ذلك من عذاب الله شيئًا. قرأ نافع وابن عامر {وريًّا} بتشديد الياء بغير همز، يعني النعمة، والباقون {ورئيًا} بالهمز بغير تشديد يعني المنظر. قال أبو عبيد: وهكذا نقرأ مهموزًا لأنه من رؤية العين، وإنما هي المنظر.
ثم قال عز وجل: {وَرِءيًا قُلْ مَن كَانَ في الضلالة} يعني: قل يا محمد من كان في الكفر والشرك {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدًّا} يعني: يزيد له مالًا وولدًا.
قوله: {فَلْيَمْدُدْ} هذا لفظ الأمر، ومعناه الخبر، وتأويله أن الله عز وجل جعل جزاء ضلالته أن يتركه فيها، ويمده فيها، كما قال: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} يعني في الآخرة من العذاب والثواب {إِمَّا العذاب} في الدنيا {وَإِمَّا الساعة} أي قيام الساعة {فَسَيَعْلَمُونَ} يعني: فسيعرفون يوم القيامة {مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا} يعني: صنيعًا في الدنيا، ومنزلًا في الآخرة {وَأَضْعَفُ جُندًا} يعني: أقل عددًا وقوة ومنعة أهم أم المؤمنون، {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} يعني: يزيد الله عز وجل الذين آمنوا بالمنسوخ هدى بالناسخ ليعملوا بالناسخ دون المنسوخ، ويقال جعل جزاءهم أن يزيدهم في يقينهم ويزيدهم بصيرة {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا} وقد ذكرناه {وَخَيْرٌ مَّرَدًّا} يعني: وأفضل مرجعًا في الآخرة.
{أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بآياتنا} يعني: بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن {وَقَالَ لاَوتَيَنَّ} يعني: لأعطين {مَالًا وَوَلَدًا} في الجنة.
روى أسباط عن السدي أن خباب بن الأرت كان صائغًا يعمل للعاص بن وائل حليًا، فجاء يسأله أجره، فقال له العاص: أنتم تزعمون أن لنا بعثة وجنة ونارًا، فإذا كان يوم القيامة، فإني سأوتى مَالًا وَوَلدًا، وأعطيك منه، فنزل {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بآياتنا وَقَالَ لاَوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} في الجنة.
قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو {مَالًا وَوَلَدًا} بفتح اللام والواو في كل القرآن، غير أن أبا عمرو قرأ في سورة نوح بالضم، وهكذا روي عن مجاهد، وقرأ حمزة والكسائي بضم الواو وجزم اللام من هاهنا إلى آخر السورة، والتي في الزخرف، والتي في سورة نوح، وقال أبو عبيد: إنما قرأ هكذا لأنهما جعلا الوُلْد غير الوَلَد، فيقال: الوُلْد جماعة الأهل، والوَلَد واحد، وقال الزجاج: الوُلْد مثل أسد وأُسْد، وجائز أن يكون الوَلد بمعنى الولد قال أبو عبيد والذي عندنا في ذلك أنهما لغتان، والذي نختاره منهما بفتح اللام والواو.